فصل: موادعة بني ضمرة و الرجوع من غير حرب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **


 ذكر من اعتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة

 مرض أبي بكر وبلال وعامر بن فهيرة ، و حديث عائشة عنهم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني هشام بن عروة ، وعمر بن عبدالله بن عروة ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت ‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

قالت ‏:‏ فكان أبو بكر ، وعمر بن فهيرة ، وبلال ، مَوْليا أبي بكر ، مع أبي بكر في بيت واحد ، فأصابتهم الحمى ، فدخلت عليهم أعودهم ، وذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب ، وبهم ما لا يعلمه إلا االله من شدة الوعك ، فدنوت من أبي بكر ، فقلت له ‏:‏ كيف تجدك يا أبت ‏؟‏ فقال ‏:‏

كل امرىء مُصبَّح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله

قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ والله ما يدري أبي ما يقول ‏.‏ قالت ‏:‏ ثم دنوت إلى عامر ابن فهيرة ، فقلت له ‏:‏ كيف تجدك يا عامر ‏؟‏ فقال ‏:‏

لقد وجدتُ الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه

كل امرىء مجاهد بطوقه * كالثور يحمي جلده برَوْقه

بطوقه يريد ‏:‏ بطاقته ، فيما قال ابن هشام ‏:‏ قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ والله ما يدري عامر ما يقول ‏!‏ قالت ‏:‏ وكان بلال إذا تركته الحمَّى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال ‏:‏

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة * بفخّ وحَوْلي إذخر وجليل

وهل أردنْ يوما مياه مَجِنَّة * وهل يبدون لي شامة وطفيل

قال ابن هشام ‏:‏ شامة وطفيل ‏:‏ جبلان بمكة ‏.‏

 دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بنقل وباء المدينة إلى مهيعة

قالت عائشة رضي الله عنها ‏:‏ فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم ، فقلت ‏:‏ إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى ‏.‏ قالت ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة ، أو أشد ، وبارك لنا في مُدّها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة ، ومهيعة ‏:‏ الجحفة ‏.‏

 ما جهد المسلمين من الوباء

قال ابن إسحاق ‏:‏ وذكر ابن شهاب الزهري ، عن عبدالله بن عمرو ابن العاصي ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة ، حتى جهدوا مرضا ، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، حتى كانوا ما يصلُّون إلا وهُم قعود ، قال ‏:‏ فخرج عليهم رسول الله صلى الله عيه وسلم وهم يصلون كذلك ، فقال لهم ‏:‏ اعلموا أن صلاة القاعد على النِّصْف من صلاة القائم ‏.‏ قال ‏:‏ فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل ‏.‏

 بدء قتال المشركين

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه ، قام فيما أمره الله به من جهاد عدوه ، وقتال من أمره الله به ممن يليه من المشركن ، مشركي العرب ، وذلك بعد أن بعثه الله تعلى بثلاث عشرة سنة ‏.‏

 

تاريخ الهجرة

بالإسناد المتقدم عن عبدالملك بن هشام ، قال ‏:‏ حدثنا زياد بن عبدالله البكائي ، عن محمد بن إسحاق المطلبي ، قال ‏:‏ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الإثنين ، حين اشتد الضحاء ، وكادت الشمس تعتدل ، لثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ، وهو التاريخ ، فيما قال ابن هشام ‏.‏

 

عمره صلى الله عليه وسلم حين الهجرة

قال ابن إسحاق ‏:‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثلاث وخمسين سنة ، وذلك بعد أن بعثه الله عز وجل بثلاث عشرة سنة ، فأقام بها بقية شهر ربيع الأول ، وشهر ربيع الآخر ، وجماديين ، ورجبا ، وشعبان ، وشهر رمضان ، وشوالا ، وذا القعدة ، وذا الحجة - وولي تلك الحجة المشركون - والمحرم ، ثم خرج غازيا في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة سعد بن عبادة ‏.‏

 

غزوة ودان ، وهي أول غزواته عليه الصلاة والسلام

 

موادعة بني ضمرة و الرجوع من غير حرب

قال ابن إسحاق ‏:‏ حتى بلغ وَدّان ، وهي غزوة الأبواء ، يريد قريشا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، فوادعته فيها بنو ضمرة ، وكان الذي وادعه منهم عليهم مخَشيّ بن عمرو الضمري ، وكان سيدهم في زمانه ذلك ‏.‏

ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ولم يلق كيدا ، فأقام بها بقية صفر ، وصدرا من شهر ربيع الأول ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ وهي أول غزوة غزاها ‏.‏

 

سرية عبيدة بن الحارث ، وهي أول راية عقدها عليه الصلاة والسلام

 

أول سهم رمي به في الإسلام

قال ابن إسحاق ‏:‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مُقامه ذاك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز ، بأسفل ثنيِّة المرة ، فلقي بها جمعا عظيما من قريش ، فلم يكن بينهم قتال ، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمي يومئذ بسهم ، فكان أول سهم رمي به في الإسلام ‏.‏

 

من فر من المشركين إلى المسلمين في هذه السرية

ثم انصرف القوم عن القوم ، وللمسلمين حامية ‏.‏ وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني ، حليف بني زهرة ، وعتبة بن غزوان بن جابر المازني ، حليف بني نوفل بن عبد مناف ، وكانا مسلمين ، ولكنهما خرجا ليتوصَّلا بالكفار ‏.‏ وكان على القوم عكرمة ابن أبي جهل ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ حدثني ابن أبي عمرو بن العلاء ، عن أبي عمرو المدني ‏:‏ أنه كان عليهم مِكْرز بن حفص بن الأخيف ، أحد بني معيص بن عامر ابن لؤي بن غالب بن فهر ‏.‏

 

شعر أبي بكر في هذه السرية

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، في غزوة عبيدة بن الحارث - قال ابن هشام ‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لأبي بكر رضي الله عنه - ‏:‏

أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث * أرقت وأمر في العشيرة حادث

ترى من لؤي فرقة لا يصدها * عن الكفر تذكير ولا بعث باعث

رسول أتاهم صادق فتكذبوا * عليه وقالوا ‏:‏ لست فينا بماكث

إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا * وهروا هرير المجحرات اللواهث

فكم قد متتنا فيهم بقرابة * وترك التُّقى شيء لهم غيرُ كارث

فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم * فما طيبات الحل مثل الخبائث

وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم * فليس عذاب الله عنهم بلابث

ونحن أناس من ذؤابة غالب * لنا العز منها في الفروع الأثائث

فأولي برب الراقصات عشية * حراجيج تحدى في السريح الرثائث

كأدم ظباء حول مكة عكف * يردن حياض البئر ذات النبائث

لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم * ولست إذا آليت قولا بحانث

لتبتدرنهَّم غارة ذات مصدق * تحرم أطهار النساء الطوامث

تغادر قتلى تعصب الطير حولهم * ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث

فأبلغ بني سهم لديك رسالة * وكل كفور يبتغي الشر باحث

فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم * فإني من أعراضكم غير شاعث

 

شعر ابن الزبعرى يرد على أبي بكر

فأجابه عبدالله بن الزبعرى السهمي ، فقال ‏:‏

أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث * بكيت بعين دمعها غير لابث

ومن عجب الأيام والدهر كله * له عجب من سابقات وحادث

لجيش أتانا ذي عرام يقوده * عبيدة يُدعى في الهياج ابن حارث

لنترك أصناما بمكة عكفا * مواريث موروث كريم لوراث

فلما لقيناهم بسمر ردينة * وجرد عتاق في العجاج لواهث

وبيض كأن الملح فوق متونها * بأيدي كماة كالليوث العوائث

نقيم بها إصعار من كان مائلا * ونشقي الذحول عاجلا غير لابث

فكفوا على خوف شديد وهيبة * وأعجبهم أمر لهم أمر رائث

ولو أنهم لم يفعلوا ناح نسوة * أيامى لهم ، من بين نسء وطامث

وقد غودرت قتلى يخبر عنهمُ * حفي بهم أو غافل غير باحث

فأبلغ أبا بكر لديك رسالة * فما أنت عن أعراض فهر بماكث

ولما تجب مني يمين غليظة * تجدد حربا حلفة غير حانث

قال ابن هشام ‏:‏ تركنا منها بيتا واحدا ، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لابن الزبعرى ‏.‏

 

شعر سعد بن أبي وقاص يذكر رميته في هذه السرية

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال سعد بن أبي وقاص في رميته تلك فيما يذكرون ‏:‏

ألا هل أتى رسول الله أني * حميت صحابتي بصدور نبلي

أذود بها أوائلهم ذيادا * بكل حُزُونة وبكل سَهْلِ

فما يعتدُّ رام في عدو * بسهم يا رسول الله قبلي

وذلك أن دينك دين صدق * وذو حق أتيت به وعدل

ينجَّى المؤمنون به ، ويجُزى * به الكفار عند مقام مَهْل

فمهلا قد غويت فلا تَعِبْني * غويَّ الحي ويحك يا ابن جهل

قال ابن هشام ‏:‏ وأكثر أهل العم بالشعر ينكرها لسعد ‏.‏

 

أول راية في الإسلام كانت لعبيدة

قال ابن إسحاق ‏:‏ فكانت راية عبيدة بن الحارث - فيما بلغني - أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ، لأحد من المسلمين ‏.‏ وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء ، قبل أن يصل إلى المدينة ‏.‏

 

سرية حمزة إلى سيف البحر

 

ما فعلته هذه السرية

وبعث في مقامه ذلك ، حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم ، إلى سيف البحر ، من ناحية العيص ، في ثلاثين راكبا من المهاجرين ، وليس فيهم من الأنصار أحد ‏.‏ فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاث مئة راكب من أهل مكة ‏.‏ فحجز بينهم مجديُّ بن عمرو الجهني ‏.‏ وكان موادعا للفريقين جميعا ، فانصرف بعض القوم عن بعض ، ولم يكن بينهم قتال ‏.‏

من قال أن أول راية في الإسلام كانت لحمزة رضي الله عنه ، و شعر حمزة في ذلك

وبعض الناس يقول ‏:‏ كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين ‏.‏ وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا ، فشُبِّه ذلك على الناس ‏.‏ وقد زعموا أن حمزة قد قال في ذلك شعرا يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان حمزة قد قال ذلك ، فقد صدق إن شاء الله ، لم يكن يقول إلا حقا ، فالله أعلم أي ذلك كان ‏.‏

فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا ، فعبيدة بن الحارث أول من عقد له ‏.‏ فقال حمزة في ذلك ، فيما يزعمون ‏:‏

قال ابن هشام ‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لحمزة رضي الله عنه ‏:‏

ألا يا لقومي للتحلم والجهل * وللنقص من رأي الرجال وللعقل

وللراكبينا بالمظالم لم نطأ * لهم حرمات من سوام ولا أهل

كأنا تَبلْناهم ولا تبل عندنا * لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل

وأمر بإسلام فلا يقبلونه * وينزل منهم مثل منزلة الهزل

فما برحوا حتى انتدبت لغارة * لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل

بأمر رسول الله ، أول خافق * عليه لواء لم يكن لاح من قبلي

لواء لديه النصر من ذي كرامة * إله عزيز فعله أفضل الفعل

عشية ساروا حاشدين وكلنا * مراجله من غيظ أصحابه تغلي

فلما تراءينا أناخوا فعقَّلوا مطايا * وعقَّلنا مدى غرض النبل

فقلنا لهم ‏:‏ حبل الإله نصيرنا * وما لكم إلا الضلالة من حبل

فثار أبو جهل هنالك باغيا * فخاب وردَّ الله كيد أبي جهل

وما نحن إلا في ثلاثين راكبا * وهم مئتان بعد واحدة فضل

فيا للؤي لا تطيعوا غواتكم * وفيئوا إلى الإسلام والمنهج السهل

فإني أخاف أن يُصبَّ عليكم * عذاب فتدعوا بالندامة والثكل

 

شعر أبو جهل يرد على حمزة

فأجابه أبو جهل بن هشام ، فقال ‏:‏

عجبت لأسباب الحفيظة والجهل * وللشاغبين بالخلاف وبالبطل

وللتاركين ما وجدنا جدودنا * عليه ذوي الأحساب والسؤدد الجزل

أتونا بإفك كي يضلوا عقولنا * وليس مضلا إفكهم عقل ذي عقل

فقلنا لهم ‏:‏ يا قومنا لا تخالفوا * على قومكم إن الخلاف مدى الجهل

فإنكم إن تفعلوا تدع نسوة * لهن بواك بالرزية والثكل

وإن ترجعوا عما فعلتم فإننا * بنو عمكم أهل الحفائظ والفضل

فقالوا لنا ‏:‏ إنا وجدنا محمدا * رضا لذوي الأحلام منا وذي العقل

فلما أبوا إلا الخلاف وزينوا * جماع الأمور بالقبيح من الفعل

تيممتهم بالساحلين بغارة * لأتركهم كالعصف ليس بذي أصل

فورَّعني مجديّ عنهم وصحبتي * وقد وازروني بالسيوف وبالنبل

لإلٍّ علينا واجب لا نضيعه * أمين قواه غير منتكث الحبل

فلولا ابن عمرو كنت غادرت منهم * ملاحم للطير العكوف بلا تبل

ولكنه آلى بإلٍّ فقلَّصت * بأيماننا حد السيوف عن القتل

فإن تُبقني الأيام أرجعْ عليهم * ببيض رقاق الحد محدثة الصقل

بأيدي حماة من لؤي بن غالب * كرام المساعي في الجدوبة والمحل

قال ابن هشام ‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لأبي جهل ‏.‏

 

غزوة بواط

 

يومها

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول يريد قريشا ‏.‏

 

ابن مظعون في المدينة

قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون ‏.‏

 

العودة إلى المدينة

قال ابن إسحاق ‏:‏ حتى بلغ بواط ، من ناحية رضوى ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا ، فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى ‏.‏

 

غزوة العشيرة

 

من استعمله صلى الله عليه وسلم على المدينة

ثم غزا قريشا ، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد ، فيما قال ابن هشام ‏.‏

 

الطريق الذي سلكه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة

قال ابن إسحاق ‏:‏ فسلك على نقب بني دينار ، ثم على فيفاء الخبار ، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر ، يقال لها ‏:‏ ذات الساق ، فصلى عندها ‏.‏ فثمَّ مسجده صلى الاله عليه وسلم ، وصُنع له عندها طعام ، فأكل منه ، وأكل الناس معه ، فموضع أثافي البرمة معلوم هنالك ، واستُقي له من ماء به ، يقال له ‏:‏ المشترب ، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائق بيسار ، وسلك شعبة يقال لها ‏:‏ شعبة عبدالله ، وذلك اسمها اليوم ، ثم صب لليسار حتى هبط يليل ، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة ، واستقى من بئر بالضبوعة ، ثم سلك الفرش ‏:‏ فرش ملل ، حتى لقي الطريق بصحيرات اليمام ، ثم اعتدل به الطريق ، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع ‏.‏ فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة ، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم يلق كيدا ‏.‏

 

تكنيته صلى الله عليه وسلم عليا أبا تراب

وفي تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام ما قال ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم المحاربي ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن محمد بن خيثم أبي يزيد ، عن عمار بن ياسر ، قال ‏:‏ كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة ؛ فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بها ؛ رأينا أناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل ؛ فقال لي علي بن أبي طالب ‏:‏ يا أبا اليقظان ، هل لك في أن تأتي هؤلاء القوم ، فننظر كيف يعملون ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ إن شئت ؛ قال ‏:‏ فجئناهم ، فنظرنا إلى عملهم ساعة ، ثم غشينا النوم ‏.‏ فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في صور من النخل ، وفي دقعاء من التراب فنمنا ، فوالله ما أهبَّنا إلا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله ‏.‏ وقد تترَّبْنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها ، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب ‏:‏ ما لك يا أبا تراب ‏؟‏ لما يرى عليه من التراب ‏.‏

 

أشقى رجلين

ثم قال ‏:‏ ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين ‏؟‏ قلنا ‏:‏ بلى ، يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذه - و وضع يده على قرنه - حتى يَبُلَّ منها هذه ‏.‏ وأخذ بلحيته ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد حدثني بعض أهل العلم ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سمَّى عليا أبا تراب ، أنه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها ، ولم يقل لها شيئا تكرهه ، إلا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه ‏.‏ قال ‏:‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عليه التراب عرف أنه عاتب على فاطمة ، فيقول ‏:‏ ما لك يا أبا تراب ‏؟‏ فالله أعلم أي ذلك كان ‏.‏

 

سرية سعد بن أبي وقاص

 

ذهابه إلى الخرار و رجوعه من غير حرب

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص ، في ثمانية رهط من المهاجرين ، فخرج حتى بلغ الخرَّار من أرض الحجاز ، ثم رجع ولم يلق كيدا ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة ‏.‏

 

غزوة سفوان ، وهي غزوة بدر الأولى

 

إغارة كرز و الخروج في طلبه

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولم يُقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر ، حتى أغار كرز ابن جابر الفهري على سرح المدينة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة ، فيما قال ابن هشام ‏.‏

 

فوات كرز و الرجوع من غير حرب

قال ابن إسحاق ‏:‏ حتى بلغ واديا ، يقال له ‏:‏ سفوان ، من ناحية بدر ، و فاته كرز بن جابر ، فلم يدركه ، وهي غزوة بدر الأولى ‏.‏ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا وشعبان ‏.‏

 

سرية عبدالله بن جحش ونزول ‏:‏ ‏(‏ يسألونك عن الشهر الحرام ‏)‏ ‏.‏

 

بعثه و الكتاب الذي حمله من الرسول صلى الله عليه و سلم

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضي لما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحدا ‏.‏

 

أصحاب ابن جحش في هذه السرية

وكان أصحاب عبدالله بن جحش من المهاجرين ، ثم من بني عبد شمس ابن عبد مناف ‏:‏ أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ؛ ومن حلفائهم ‏:‏ عبدالله بن جحش ، وهو أمير القوم ، وعكاشة بن محصن ابن حرثان ، أحد بني أسد بن خزيمة ، حليف لهم ‏.‏

ومن بني نوفل بن عبد مناف ‏:‏ عتبة بن غزوان بن جابر ، حليف لهم ‏.‏

ومن بني زهرة بن كلاب ‏:‏ سعد بن أبي وقاص ‏.‏

ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة ، حليف لهم من عنز ابن وائل ، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة ابن يربوع ، أحد بني تميم ، حليف لهم ، وخالد بن البكير ، أحد بني سعد بن ليث ، حليف لهم ‏.‏

ومن بني الحارث بن فهر ‏:‏ سهيل بن بيضاء ‏.‏

 

ابن جحش يفتح الكتاب

فلما سار عبدالله بن جحش يومين فتح الكتاب ، فنظر فيه فإذا فيه ‏:‏ إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم ‏.‏ فلما نظر عبدالله بن جحش في الكتاب ، قال ‏:‏ سمعا وطاعة ؛ ثم قال لأصحابه ‏:‏ قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ، أرصد بها قريشا ، حتى آتيه منهم بخبر ؛ وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم ‏.‏ فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ؛ فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ومضى معه أصحابه ، لم يتخلف عنه منهم أحد ‏.‏

 

من تخلف عن السرية بمعدن وسببه

و سلك على الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن ، فوق الفرع ، يقال له ‏:‏ بحران ، أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما ، كانا يعتقبانه ‏.‏ فتخلفا عليه في طلبه ‏.‏ ومضى عبدالله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ‏.‏

 

السرية تلتقي بتجارة لقريش

فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ، وتجارة من تجارة قريش ، فيهما عمرو بن الحضرمي ‏.‏

 

اسم الحضرمي ونسبه

قال ابن هشام ‏:‏ واسم الحضرمي ‏:‏ عبدالله بن عباد ، ويقال ‏:‏ مالك بن عباد أحد الصدف ، واسم الصدف ‏:‏ عمرو بن مالك ، أحد السكون ابن أشرس بن كندة ، ويقال ‏:‏ كنديّ ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وعثمان بن عبدالله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبدالله ، المخزوميان ، والحكم بن كيسان ، مولى هشام بن المغيرة ‏.‏

 

ما جرى بين الفريقين و ما خلص به ابن جحش

فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا ، وقالوا عُمَّار ، لا بأس عليكم منهم ‏.‏ وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم ‏:‏ والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم ، فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ؛ فتردد القوم ، وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم ‏.‏ فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبدالله ، والحكم بن كيسان ؛ وأفلت لقومَ نوفلُ بن عبدالله فأعجزهم ‏.‏ وأقبل عبدالله ابن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ‏.‏

وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش ‏:‏ أن عبدالله قال لأصحابه ‏:‏ إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس - وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم - فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه ‏.‏

 

إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم قتالهم في الأشهر الحرم

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؛ قال ‏:‏ ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ‏.‏ فوقَّف العير والأسيرين ‏.‏ وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا ؛ فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سُقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا ‏.‏ وقالت قريش ‏:‏ قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال ؛ فقال من يرد عليهم من المسلمين ، ممن كان بمكة ‏:‏ إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان ‏.‏

 

توقع اليهود بالمسلمين الشر

وقالت يهود - تفاءَلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم - عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبدالله ، عمرو ، عمرت الحرب ؛ والحضرمي ، حضرت الحرب ؛ وواقد بن عبدالله ، وقدت الحرب ‏.‏ فجعل الله ذلك عليهم لا لهم ‏.‏

 

القرآن يقر ما فعله ابن جحش

فلما أكثر الناس في ذلك ، أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه ، قل قتال فيه كبير ، وصد عن سبيل الله وكفر به ، والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله ‏)‏ أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجكم منه وأنتم أهله ، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم ‏(‏ والفتنة أكبر من القتل ‏)‏ ‏:‏ أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه ، فذلك أكبر عند الله من القتل ‏(‏ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ‏)‏ ‏:‏ أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين ‏.‏

فلما نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق ، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا نُفديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما ، نقتل صاحبيكم ‏.‏ فقدم سعد وعتبة ، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ‏.‏

 

إسلام ابن كيسان و موت عثمان كافرا

فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عله وسلم حتى قُتل يوم بئر معونة شهيدا ‏.‏ وأما عثمان بن عبدالله فلحق بمكة ، فمات بها كافرا ‏.‏

طمع ابن جحش أمير السرية في الأجر وما نزل في ذلك من القرآن

فلما تجلى عن عبدالله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ، طمعوا في الأجر ، فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، أنطمع أن تكون لنا غزوة نُعطى فيها أجر المجاهدين ‏؟‏ فأنزل الله عز وجل فيهم ‏:‏ ‏(‏ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ، والله عفور رحيم ‏)‏ ، فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء ‏.‏

والحديث في هذا عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ‏.‏

 

إحلال الفيء وقسمه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش ‏:‏ أن الله عز وجل قسم الفيء حين أحله ، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه الله ، وخمسا إلى الله ورسوله ، فوقع على ما كان عبدالله بن جحش صنع في تلك العير ‏.‏

 

أول غنيمة للمسلمين

قال ابن هشام ‏:‏ وهي أول غنيمة غنمها المسلمون ‏.‏ وعمرو بن الحضرمي أول من قتله المسلمون ، وعثمان بن عبدالله ، والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون ‏.‏

 

شعر عبدالله بن جحش في هذه السرية

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبدالله بن جحش ، ويقال ‏:‏ بل عبدالله بن جحش قالها ، حين قالت قريش ‏:‏ قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه المال ، وأسروا فيه الرجال - قال ابن هشام ‏:‏ هي لعبدالله ابن جحش - ‏:‏

تعدون قتلا في الحرام عظيمة * وأعظم منه لو يرى الرشدَ راشدُ

صدودكم عما يقول محمد * وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله * لئلا يُرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن عيرتمونا بقتله * وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما وابنُ عبدالله عثمان بيننا * ينازعه غُلّ من القدّ عاند